مرت في أيلول أيام ذكرى عديدة رغبت في الكتابة عنها (ما ألبث أن أرغب عن الكتابة فيها) كذكرى أيلول الأسود- الذي كشفت صحيفة هآرتس مؤخرا عن وثائق جديدة عنه (بطبعتيها العبرية والإنجليزية) تفيد بحجم التواطؤ العربي والتنسيق الأمريكي الإسرائيلي- وذكرى وفاة عبد الناصر، فرغم عدم انبهاري من مشروعه - الذي وصفه سمير أمين بأنه مشروع برجوازي غير ثوري معتبرا أن سياسة السادات لم تكن انقلابا عليه بل مجرد امتداد طبيعي له فلا ننسى أن عبد الناصر قبل بمبادرة روجرز في نفس الوقت الذي كان يتغنى به بلاءات الخرطوم - لكنه يبق قائدا مقارنة بالدمى التي نصر أن نسميها زعماء رغم أنه تعجز أن تحرك إصبعها دون أمر ذلك الممسك بأطراف الخيوط الخفية. كما أنني لست من هؤلاء الليبراليين الذين يدّعون أن فترة حكم عبد الناصر قطعت تجربة ديموقراطية منذ عهد الملوكية إلى عهد محمد نجيب (تتجلى هذه النزعة في رواية عمارة يعقوبيان - ولا أدري عن الفيلم الذي لم أشاهده)... متناسين أن ديموقراطيتهم الجوفاء لم تشمل سوى أرستقراطية القاهرة (والإسكندرية) وبعضا من برجوازيتها في وقت كان غالبية المصريين فيه أقنان "طاوين الأحشاء على الطوى". فلولا الإصلاح الزراعي (على آفاته الجمة) ولولا انتشار التعليم في الأرياف ولدى لبقي معظم الشعب المصري يعيش في العصور الوسطى (وقد أحسن يوسف إدريس بتصوير ذلك برمزية في قصة الطرفة وخاتمة رواية الحرام).
لكن ما نجه بدفني للكتابة أخيرا هو مرور ذكرى "هبة أكتوبر" (تسمية اخترعت لإعادة رسم خط أخضر محته أول أيام تشرين في آخر سنة من الألفية الثانية) فتم الإضراب (لأول مرة منذ فترة طويلة) وكانت مظاهرة "جبارة" في عرابة حضرها ستون ألف إنسان (بحسب تقديرات المنظمين المتفائلة). فقد شكل الإضراب العام مطلبا رسميا من بعض الأحزاب ولجنة ذوي الشهداء منذ سنوات ولم يجهضه سوى رفض الجبهة له، ولا أدري سبب تغيير الموقف (وهل له علاقة بالنسب المزعوم بين سكرتارية الجبهة القطرية ورئاسة لجنة ذوي الشهداء) على أي حال فقد شهدت أبواق كافة الأحزاب بنجاح الإضراب والمظاهرة وليس الإجماع سوى تأكيد لهذه "الحقيقة الساطعة".
الإضراب وسيلة نضالية يستخدمها العمال لمطالبة أرباب المصانع بحقوقهم وهي وسيلة قديمة (أول إضراب موثق حصل في مصر الفرعونية) تستخدم كآلية ضغط لتحسين الأوضاع لكنها لوحد الإضراب وحده لا يعني شيئا ما دام لم يؤدي إلى تحسين موقفك بالمفاوضات. قولي لي بالله عليكم على من ضغطنا بإضرابنا لبضع عشر ساعات وهل أصلا يمكن تصنيف ما حدث إضرابا؟ كيف ضغطنا على الحكومة الإسرائيلية بإغلاقنا المؤسسات الخدماتية العربية أمام المواطن العربي؟ هل حقا التزم العرب العاملين بشركات ومصانع غير عربية بالإضراب؟ هل أدى "الإضراب" إلى نتائج عملية؟ هل نجحنا بطرح قضايانا أمام الرأي العام الإسرائيلي؟ هل أصلا حصلنا على تغطية إعلامية لما حدث؟ ما كان لم يكن إضرابا بل يوم حداد لذكرى أحداث حزينة ولا علاقة له البتة بالنضال الشعبي. كذلك الأمر بالنسبة للمظاهرة فما الغاية من التظاهر في مناطق سكنانا وما الفرق بين قيام مظاهرة في عرابة (أو الناصرة أو أم الفحم أو أي بلدة عربية أخرى) وبين أن نطلب من كل مواطن أن يتظاهر في غرفة نومه على حدة؟ ما دام الأمر لا يحصل على تغطية إعلامية تطرح قضايانا أمام الرأي العام... نجاح المظاهرة هو قيامنا بملئ إحدى ساحات تل أبيب بمائة ألف متظاهر على الأقل (يفضل أن يكون الرقم أقرب إلى المائتين) لنظهرجديتنا امام صناع القرار... كل ما عدا ذلك لا يدخل حتى في إطار النضال.
اليوم ذكرى ميلاد موهنداس كريشمند غاندي الذي أبهر العالم بقيادته حركة تحرير للهند (بل لشبه الجزيرة الهندية) بأساليب سلمية. ولننس لبرهة أن تحريره للهند جاء في ظرف تاريخي أفلست فيه الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس مما جعل قادتها يقررون التخلي عن المستعمرات (لذا فتحرير الهند كان سيتم حتى دون حركته اللاعنفية لكنه كان سيكون آجلا وليس عاجلا) ولننس فشله باحتواء الخلافات الطائفية/الإثنية رغم شخصيته الكاريزماتية مما ادى إلى استقلال منفصل لباكستان وبانغلادش. يبقى تراث غاندي إلهاما لأي حركة عصيان مدني فلنتعلم من تجربته.
حتى نعتبر أي عملية عصيان مدنيا يجب أن تكون عصيانا أي أن تعصي إرادة الحاكم، واليوم فالحكومة الإسرائيلية تخلصت من أساليب الحكم العسكري واستعاضت عن رغبتها بالتحكم المباشر بكل فرد باحتوائها للحركة الشعبية وتهميشها في النطاق الإسرائيلي. الإضراب لذلك فقد غايته وكذلك المظاهرات... نضالنا يجب أن يكون ذا تأثير على كرسي الحاكم أو على الرأي العام الإسرائيلي وهو ما لم نفعله بتاتا. فحتى مقاطعتنا شبه الكاملة للانتخابات الرئاسية لم تؤثر في نتيجتها أو في تعامل قادة الأحزاب الصهيونية معنا ولم تترك أي أثر فينا نحن (من يذكر أصلا أننا قاطعنا الانتخابات) صديق لي اعتبر مجرد نجاح المقاطعة إنجازا رغم انعدام أي مربح لنا منها (أحييه على روحه الرياضية ولعله استلهم نظريته من عالم الرياضة إذ أنه يعتبر أن مجرد مشاركته باللعبة إنجاز حتى لو خسر100-صفر).
لا أدعي حيازتي على الأجوبة ولا أدعي حتى أنني أعتبر تدوينتي هذه جديرة بالقراءة فقد أردت أن أقول بها كل شيء دفعة واحدة. لكن رجاء لا تحولوا هزائمنا إلى انتصارات، النضال ليس فعلا آنيا بل مسيرة طويلة ومتكاملة لا تنقطع سوى بإحراز المطالب وليست فعاليات منقطعة عن أي سياق نقوم بها لإرضاء ذاتنا مدعية الوطنية. حالنا ليس بخير بل هو أشبه بحال الرجل الذي نجا من خوف فيل هائج إلى بئر فتدلى فيها متعلقا بغصنين ثم نظر فإذا في قاع البئر تنين فاتح فاه منتظر له ليقع فيأخذه؛ فرفع بصره إلى الغصنين فإذا في أصلهما جرذان أسود وأبيض، وهما يقرضان الغصنين دائبين لا يفتران، فبينما هو في النظر لأمره والاهتمام لنفسه، إذا أبصر قريباً منه كوارةً فيها عسل نحلٍ؛ فذاق العسل، فشغلته حلاوته وألهته لذته عن الفكرة في شيءٍ من أمره، وأن يلتمس الخلاص لنفسه.
لكن ما نجه بدفني للكتابة أخيرا هو مرور ذكرى "هبة أكتوبر" (تسمية اخترعت لإعادة رسم خط أخضر محته أول أيام تشرين في آخر سنة من الألفية الثانية) فتم الإضراب (لأول مرة منذ فترة طويلة) وكانت مظاهرة "جبارة" في عرابة حضرها ستون ألف إنسان (بحسب تقديرات المنظمين المتفائلة). فقد شكل الإضراب العام مطلبا رسميا من بعض الأحزاب ولجنة ذوي الشهداء منذ سنوات ولم يجهضه سوى رفض الجبهة له، ولا أدري سبب تغيير الموقف (وهل له علاقة بالنسب المزعوم بين سكرتارية الجبهة القطرية ورئاسة لجنة ذوي الشهداء) على أي حال فقد شهدت أبواق كافة الأحزاب بنجاح الإضراب والمظاهرة وليس الإجماع سوى تأكيد لهذه "الحقيقة الساطعة".
الإضراب وسيلة نضالية يستخدمها العمال لمطالبة أرباب المصانع بحقوقهم وهي وسيلة قديمة (أول إضراب موثق حصل في مصر الفرعونية) تستخدم كآلية ضغط لتحسين الأوضاع لكنها لوحد الإضراب وحده لا يعني شيئا ما دام لم يؤدي إلى تحسين موقفك بالمفاوضات. قولي لي بالله عليكم على من ضغطنا بإضرابنا لبضع عشر ساعات وهل أصلا يمكن تصنيف ما حدث إضرابا؟ كيف ضغطنا على الحكومة الإسرائيلية بإغلاقنا المؤسسات الخدماتية العربية أمام المواطن العربي؟ هل حقا التزم العرب العاملين بشركات ومصانع غير عربية بالإضراب؟ هل أدى "الإضراب" إلى نتائج عملية؟ هل نجحنا بطرح قضايانا أمام الرأي العام الإسرائيلي؟ هل أصلا حصلنا على تغطية إعلامية لما حدث؟ ما كان لم يكن إضرابا بل يوم حداد لذكرى أحداث حزينة ولا علاقة له البتة بالنضال الشعبي. كذلك الأمر بالنسبة للمظاهرة فما الغاية من التظاهر في مناطق سكنانا وما الفرق بين قيام مظاهرة في عرابة (أو الناصرة أو أم الفحم أو أي بلدة عربية أخرى) وبين أن نطلب من كل مواطن أن يتظاهر في غرفة نومه على حدة؟ ما دام الأمر لا يحصل على تغطية إعلامية تطرح قضايانا أمام الرأي العام... نجاح المظاهرة هو قيامنا بملئ إحدى ساحات تل أبيب بمائة ألف متظاهر على الأقل (يفضل أن يكون الرقم أقرب إلى المائتين) لنظهرجديتنا امام صناع القرار... كل ما عدا ذلك لا يدخل حتى في إطار النضال.
اليوم ذكرى ميلاد موهنداس كريشمند غاندي الذي أبهر العالم بقيادته حركة تحرير للهند (بل لشبه الجزيرة الهندية) بأساليب سلمية. ولننس لبرهة أن تحريره للهند جاء في ظرف تاريخي أفلست فيه الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس مما جعل قادتها يقررون التخلي عن المستعمرات (لذا فتحرير الهند كان سيتم حتى دون حركته اللاعنفية لكنه كان سيكون آجلا وليس عاجلا) ولننس فشله باحتواء الخلافات الطائفية/الإثنية رغم شخصيته الكاريزماتية مما ادى إلى استقلال منفصل لباكستان وبانغلادش. يبقى تراث غاندي إلهاما لأي حركة عصيان مدني فلنتعلم من تجربته.
حتى نعتبر أي عملية عصيان مدنيا يجب أن تكون عصيانا أي أن تعصي إرادة الحاكم، واليوم فالحكومة الإسرائيلية تخلصت من أساليب الحكم العسكري واستعاضت عن رغبتها بالتحكم المباشر بكل فرد باحتوائها للحركة الشعبية وتهميشها في النطاق الإسرائيلي. الإضراب لذلك فقد غايته وكذلك المظاهرات... نضالنا يجب أن يكون ذا تأثير على كرسي الحاكم أو على الرأي العام الإسرائيلي وهو ما لم نفعله بتاتا. فحتى مقاطعتنا شبه الكاملة للانتخابات الرئاسية لم تؤثر في نتيجتها أو في تعامل قادة الأحزاب الصهيونية معنا ولم تترك أي أثر فينا نحن (من يذكر أصلا أننا قاطعنا الانتخابات) صديق لي اعتبر مجرد نجاح المقاطعة إنجازا رغم انعدام أي مربح لنا منها (أحييه على روحه الرياضية ولعله استلهم نظريته من عالم الرياضة إذ أنه يعتبر أن مجرد مشاركته باللعبة إنجاز حتى لو خسر100-صفر).
لا أدعي حيازتي على الأجوبة ولا أدعي حتى أنني أعتبر تدوينتي هذه جديرة بالقراءة فقد أردت أن أقول بها كل شيء دفعة واحدة. لكن رجاء لا تحولوا هزائمنا إلى انتصارات، النضال ليس فعلا آنيا بل مسيرة طويلة ومتكاملة لا تنقطع سوى بإحراز المطالب وليست فعاليات منقطعة عن أي سياق نقوم بها لإرضاء ذاتنا مدعية الوطنية. حالنا ليس بخير بل هو أشبه بحال الرجل الذي نجا من خوف فيل هائج إلى بئر فتدلى فيها متعلقا بغصنين ثم نظر فإذا في قاع البئر تنين فاتح فاه منتظر له ليقع فيأخذه؛ فرفع بصره إلى الغصنين فإذا في أصلهما جرذان أسود وأبيض، وهما يقرضان الغصنين دائبين لا يفتران، فبينما هو في النظر لأمره والاهتمام لنفسه، إذا أبصر قريباً منه كوارةً فيها عسل نحلٍ؛ فذاق العسل، فشغلته حلاوته وألهته لذته عن الفكرة في شيءٍ من أمره، وأن يلتمس الخلاص لنفسه.
No comments:
Post a Comment